للمرة الأولى منذ سقوط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، تتحدث السيدة التونسية الأولى سابقا ليلى طرابلسي، عن أيام الثورة التي غيرت مجرى التاريخ في تونس الخضراء.
تعود ليلى بن علي في كتابها "حقيقتي" الذي صدر في العاصمة الفرنسية باريس، بالتفصيل إلى تاريخ 14 كانون الثاني (يناير) 2011، ذلك اليوم الذي شهد انهيار النظام التونسي ومغادرة عائلتها برفقة الرئيس إلى المملكة العربية السعودية.
ترصد ليلى بن علي من وجهة نظرها ساعة بساعة، ولحظة بلحظة الطريقة التي أُجبرت فيها على مغادرة بيتها في سيدي بوزيد، ومن ثمة تونس انطلاقاً من مطار العوينة العسكري وليس مطار قرطاج، مثلما أكد لها مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي، حتى التوقيفات التي طالت أفراد عائلتها، ومقربين منها.
وترد ليلى بن علي في هذا الكتاب أيضا، على كل ما وصفته بادعاءات كاذبة وافتراءات غير مؤسسة نالت منها ومن أولادها، وهي التي وصفت بالمرأة المتكالبة على المال والسلطة. وإن كانت زوجة الرئيس التونسي السابق، تعترف باستفادة أفراد عائلتها من الطرابلسية بتواطؤ من مؤسسات الدولة من خيرات تونس، إلا أنها تحدثت عن الكثير من التفاصيل في ما يخص اتهام قريب لها بسرقة يخت في فرنسا، إلى ما سمته اللعبة المزدوجة التي لعبتها بعض الوجوه السياسية التونسية والدولية وعلى الخصوص الاستخبارات الفرنسية في الإطاحة بزوجها.
تفاصيل عدة تحاول من خلالها ليلى بن علي، دحض ما نشر وكتب عنها في هذا الكتاب الذي نشرته الزميلة "القبس" وترجمت حلقات منه، وقد تمت صياغته انطلاقا من مقابلات أجريت معها. وتنشره "الغد" بالاتفاق مع "القبس" الكويتية.
ماذا وقع في الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) 2011؟ لقد لفّت هذا اليوم إشاعات كثيرة، وادعاءات كاذبة وأدلة مصطنعة. ولذلك عليّ أن أبدأ بسرد الوقائع بدقة، مثلما لاحظتها وعشتها، لقد كانت أحداثا ميّزت رحيلنا القسري من البلاد.
في ذلك الصباح، استيقظت في حدود الساعة الثامنة صباحا في بيتنا بسيدي بوزيد.
كان الجو جميلا والبحر أزرق اللون وهادئا، لكن رغم ذلك لم أكن قادرة على الاستمتاع بمثل هذا المنظر، لأن الأخبار التي كانت تصل منذ بضعة أيام، غير مطمئنة تماما.
كانت موجة من الاحتجاجات تعصف بالبلاد، وقد انطلقت في بعض مناطق الجنوب والوسط، لتنتشر وتمتد إلى العاصمة.
في تلك الفترة بدأت عائلاتنا بالقلق، فبيت الزوجة السابقة لأخي ناصر احترق، أما شقيقتي جليلة فقد لجأت إليّ برفقة عائلتها منذ يوم الأربعاء، أي بعد يومين من ورود معلومات إليها تفيد بوجود عصابات، قررت الاعتداء على عائلة طرابلسي وأملاكها. والأمر نفسه وقع مع أخي بلحسن، الذي قرر هو الآخر قضاء بضعة ليال عند زوج والدته برفقة زوجته وأولاده.
كنا ندرك بالتأكيد أننا نعيش مرحلة صعبة، لكني لم أكن اعتقد أن الأوضاع ستتدهور بهذا الشكل ولا أننا سنغادر بعد بضع ساعات.
في تلك الجمعة 14 كانون الثاني ( يناير)، فوجئت بتدفق أفراد أسرتي على بيتي، تقاطر الجميع على بيتي، وكان من بينهم أخواتي وإخوتي وأبناء إخوتي وأولادهم وشقيقات زوجي، بالإضافة إلى أقرباء لبن علي.
كان الجميع يتحدثون عن فوضى، وعن خطر حقيقي بات قريبا، بعد أن أرسل لهم رئيس الأمن الرئاسي علي السرياطي سيارات رباعية الدفع، حتى يجتمعوا عندي في سيدي بوزيد، لكني في الواقع لم اكتب أي شكوى ولم أرسل أي رسالة إلى أفراد عائلتي عن طريق السرياطي.
لقد كلمهم هذا الأخير وشجعهم على مغادرة البلاد، وكان يقول "إنها تحترق"، ثم تكفل بتوفير حجوزات لهم على الرحلات المتوجهة إلى كل من ليون وطرابلس، على أن يعودوا إلى تونس بعد أن يستتب الأمن وتعود الأوضاع إلى مجاريها.
استعد الجميع للرحيل واتجهوا إلى مطار قرطاج التونسي، بينما انشغلت أنا بمن سيغادرون متأخرين إلى طرابلس، وكان من بينهم الزوجة السابقة لأخي ناصر مع ابنها حسام وزوجة ناصر مع أولادها الثلاثة. لم يكن الجميع ينتظرون أن تكون المغادرة بهذه السرعة، لقد أتوا بدون حقائب، وكانت النساء يرتدين نعالا منزلية، فيما كان الأطفال بلا معاطف، وقد أعرتهم القليل مما هو موجود للسفر.
بن علي يطلب من ليلى أداء عمرة
في حدود الساعة الثالثة والنصف عصرا تلقيت مكالمة هاتفية من قصر قرطاج، وكان زوجي هو المتصل.
لقد اقترح علي الذهاب لأداء عمرة برفقة ابني محمد وابنتي حليمة. كان الطلب مفاجئا للغاية فسألته لماذا نذهب فجأة هكذا للمملكة العربية السعودية؟ فأجاب بن علي "فقط حتى تعود الأوضاع لحالتها العادية، ستعودون بعد ثلاثة أيام او أربعة".
كان علي السرياطي هو من اقترح على بن علي ذلك، كنت متأكدة من الأمر، لكني لم أفهم أهمية هذا الاقتراح ولا أسباب استعجال رحيلي: كيف يمكن لي أن أصدق أن بضعة آلاف من المتظاهرين يمكن أن يشكلوا خطرا علينا، ما يجبرنا على الرحيل؟
كنت أثق في زوجي وفي قدرته على استعادة الأمن وإخراج البلاد من الاضطرابات التي تهدد هدوءها، وكيف لا أثق به، وهو الذي كان يلقب بـ"جنرال الأزمات"، قبلت الفكرة في النهاية لكن بدون اقتناع.
في تلك الأثناء وصلت ابنتي حليمة، قادمة من قصر قرطاج، حيث كانت هناك برفقة خطيبها، للاطلاع عن كثب على ما يحصل، لكنها وصلت وفي جعبتها رسالة من والدها "علي أن أمرّ عليه في مكتبه، لأودعه وأسرع في المغادرة". في حدود الساعة الرابعة عصرا غادرت البيت أنا وابني محمد البالغ ست سنوات وابنتي حليمة وخطيبها، بدون أن يكون أمامنا متسع من الوقت لترتيب حقائبنا، لكني اكتفيت بحقيبة صغيرة وضعت فيها ملابس لمحمد الصغير، فيما وضعت في الحقيبة الثانية زوجا من الأحذية وعبايات لأداء العمرة ومستلزمات الحمام.
كانت حليمة ترتدي جينزا، وأما كل متاعها فهو معطف لا غير، فلا شيء يواسيها اليوم سوى أنها لم تنس ارتداء خاتم خطبتها.. هذا ما أقوله ردا على بعض القصص التي أوردت أني غادرت محملة بعشرات الحقائب.
لم آخذ أي مجوهرات ولا ملابس ولا الملابس البسيطة التي تُرتدى يوميا، ولم يكن بحوزتي لا مال ولا جواز سفر. وقد قيل اني ذهبت محملة بأطنان من الذهب، أخذتها من البنك المركزي بعد أن سطوت عليه.
لقد كذبت إدارة البنك كل هذه الافتراءات الكبيرة، وأخيرا قيل إنهم عثروا على مبالغ مالية هائلة في قصر سيدي بوزيد بعد رحيلنا. نعم كنا نملك سيولة وهذا أمر عادي في الصناديق الشخصية لرؤساء الدول، لكنها مبالغ لا يمكن أن تصل قيمتها إلى 41 مليون دينار تونسي مثلما قيل.
مغادرة على وقع نباح الكلاب
غادرنا قصر قرطاج على وقع نباح الكلاب التي يبدو أنها اشتمت رائحة المأساة، وأما في الخارج، فكان الشارع مهجورا ولا أثر لأي دبابة، لم تكن هناك سوى سيارة شرطة متوقفة بمفردها أمام عمارة، وأما في الأسفل فكانت هناك مدرعتان تابعتان للجيش التونسي فقط. لأول مرة شعرت بأن هناك أمرا غير طبيعي يجري.
اتجهنا نحو قصر قرطاج، حيث كان علي أن أودع زوجي قبل المغادرة مثلما كان متفقا عليه، لكن لم يكن هناك أي حارس أمام المبنى الرسمي، فيما كانت الأبواب كلها مشرعة، ولم تكن هناك سيارات للمرافقة ولا للخدمات، فيما لمحت دبابتين فقط على الرصيف.
ذهلت مما رأيت وتصورت بأننا في زمن الحرب، فيما انتابني شعور بأن الشر سيحيط بنا من كل صوب.
في داخل القصر وأمام مكتب الرئيس، رأيت سيارات رباعية الدفع متوقفة، بالإضافة إلى سيارة علي السرياطي، فيما كان هناك أفراد من الحرس الشخصي وسائقون، اقترب مني احدهم وترجاني "أرجوك سيدتي، أخرجيه من هنا، على الرئيس أن يرحل".
لم أفهم معنى ما كان يقوله هذا الرجل واقتربت من المكتب للدخول. كان زوجي محاطا بمدير التشريفات الرئاسية (البروتوكول) محسن رحيم ومدير مكتبه إياد اودرني ونجله مروان مبروك، زوج إحدى بناته من زواجه الأول، والذي لم يتأخر في مغادرة المكان.
بن علي يرافق عائلته إلى المطار
كان مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي قلقا ويتحدث عن أخطار كبيرة، حيث حاول إقناعنا بضرورة أن أرحل برفقة الأولاد، وانتهى إلى إقناع الرئيس بمرافقتنا إلى المطار، مثلما جرت عليه العادة.
بقينا خمس دقائق فقط، ثم طلب الرئيس من أحدهم الذهاب إلى البيت لإحضار جوازات السفر، في تلك الأثناء
صرخ السرياطي "أي بيت؟ وأي جوازات سفر؟ ليس أمامنا أي وقت، علينا الرحيل فورا".
لم يكن أمامنا متسع للتفكير منطقيا، ورغم ذلك رفض زوجي مغادرة مكتبه، وقال للسرياطي "رافقهم، أنا سأبقى هنا"، لكن هذا الأخير أصر وقال إن القصر يمكن أن يتعرض للتفجير، وإن المروحيات تحيط بالمكان وخفر السواحل يملأون البحر. شخصيا لم أر أي مروحية، ولم أفهم كلام السرياطي الذي اعتبرته مجرد هذيان، لكني لم أقل شيئا وإنما حليمة هي من أصر على أن يرافقنا والدها إلى المطار وهددته بالقول "إن لم تأت، لن ارحل". حينها قرر بن علي الخروج من القصر.
تغيير الوجهة
أنا من قاد السيارة فيما جلس زوجي إلى جانبي، وركب ابني محمد وحليمة وخطيبها إلى الوراء. كان الموكب يتكون من سيارتي وسيارة تقل الحرس الشخصي وسيارتين أو ثلاث كانت تتجاوز الموكب للحراسة، فيما كانت سيارة علي السرياطي تسير أمامنا بسرعة فائقة لدرجة أنه اصطدم بسيارة مدنية في مفترق طرق قرطاج، لكنه لم يتوقف، اعتقادا منه بأن الأمر ليس خطيرا ولا يستدعي التوقف.
وبدل أن نتوجه نحو المطار الدولي لقرطاج، المكان الذي كنا نغادر منه في العادة، اتجه السرياطي إلى مطار العونية المخصص فقط للطيران العسكري.
فوجئت من تغيير الاتجاه، لكني لم اطرح أي سؤال، فالرجل يعرف جيدا الوضع وما علي سوى السير وراءه وبسرعة كبيرة، في تلك الأثناء أنزل الرئيس المظلة الداخلية للسيارة حتى لا يتم التعرف عليه وطلب مني تخفيض السرعة وقال "لا يوجد حريق".
في الواقع لم يفهم الرئيس لم كان السرياطي يسرع لدرجة أننا بلغنا مطار العونية في ظرف ست دقائق.
في مطار العونية
رفض الحرس العسكري في البداية فتح الأبواب لنا، وتطلّب دخولنا نزول السرياطي من سيارته، وحين دخلنا لم تتم مرافقتنا إلى القاعة الشرفية مثل العادة، ولكن إلى سرداب كانت به طائرة عسكرية.
رأيت من حولي، فانتبهت إلى أن السرداب يعج بعشرات العسكريين، كانت هناك وحدات للتدخل من فرقة محاربة الإرهاب، الذي كنا نطلق عليهم اسم "النينجا" وعناصر من الحرس الوطني وموظفين في الأمن بلباس مدني، وكان عناصر آخرون يرتدون زيا موحدا أخضر اللون، لم أتمكن من معرفتهم.
وكان الحرس الشخصي التابع لنا يفصل بيننا وبين الآخرين.
رأيت أيضا مدرعات تابعة للجيش، ولكن اعتقد أنها كانت موجودة في هذا المكان منذ بدء التظاهرات بسبب حالة الطوارئ التي أُعلنت في البلاد.
المفاجأة الثانية هي أن عددا من أفراد عائلتي الذين كانوا سيتوجهون إلى طرابلس انطلاقا من مطار قرطاج لحقوا بنا، لقد سمعوا بأني ذاهبة إلى المملكة العربية السعودية، فجاءوا أملا في العثور على مكان في الطائرة التي كانت ستقلنا، لكن السرياطي حاول ثنيهم بالقول إنهم مسجلون في رحلة تنطلق عند الساعة السابعة مساء باتجاه ليبيا، وأن عليهم الرحيل فورا حتى لا تفوتهم الرحلة، وأما أنا فلم يسمح لي الوقت إلا بإبقاء أخت زوجي سعاد إلى جانبي.
في السرداب انشغل زوجي بالحديث إلى السرياطي، وكانا يتجهان نحو الطائرة وأما أنا فكنت اتبعهما مثل الروبوت ولكني لمست شيئا من العدائية، فقلت في نفسي، لو أراد أحدهم إطلاق النار على بن علي، لأصابني أنا وهذا للأسف حلم حلمت به سابقا وكنت أتذكره دوما.
مفاوضات في الطائرة
عمّ ذعر كبير، حين أعلن السرياطي أن فرقة مكافحة الإرهاب استولت على برج المراقبة وهناك تحدثت لأول مرة، ووجهت كلامي لقائد الطائرة شيخ روحو، حيث طلبت منه إطلاعي على ما يحدث بالضبط "هل نحن فعلا غير قادرين على المغادرة؟".
أجرى قائد الطائرة اتصالا هاتفيا ثم ردّ علي "لا تنشغلي سيدتي، لا أحد استولى على برج المراقبة، وسنغادر".
هل كان علي السرياطي يكذب أم كان ضحية معلومات مغلوطة؟ على كل حال ها هو يلعب مرة أخرى، لأنه اقترح على زوجي هذه المرة شيئا آخر "سيدي الرئيس، لا نعرف الوضع، لذا عليك أن ترافق شخصيا عائلتك إلى المملكة العربية السعودية، لن تخسر شيئا إن فعلت ذلك، غدا ستعود الأمور إلى مجاريها وستعود".
رأيت زوجي وقد تملكه الذهول والدهشة، لماذا يغادر هو الآخر؟ كيف سيغادر فيما يتطلب الوضع الاستعجالي الذي تعيشه البلاد وجوده؟
في تلك الأثناء كان السرياطي يسرد السيناريو المحتمل الذي رسمه بنفسه "تفجير القصر وحمام دم واغتيال محتمل للرئيس من قبل أحد حراسه الشخصيين.
بن علي يركب الطائرة
انتهى بن علي في النهاية بقبول فكرة المغادرة بسبب إصرار السرياطي وليس بسبب دموع ابني مثلما قيل، فالصغير محمد، لم يكن يعي ما يحصل، وكان قد ركب الطائرة بمجرد وصولنا إلى مطار العوينة. في تلك الأثناء وفي حضور مدير التشريفات الرئاسية (البروتوكول) محسن رحيم، استدعى الرئيس قائد الطائرة ليخبره بقراره "سأرافقكم، حتى وصول العائلة ثم نعود بعدها مباشرة، ثم استدار نحو رحيم وطلب منه إطلاع الوزير الأول على القرار".
كان السرياطي يدفع الرئيس باتجاه مصعد الطائرة خوفا من أن يغير رأيه، وحين صعدا استمر في حديثه وقال "أنا أيضا سأغادر معكم، أغراضي موجودة هنا".
فوجئ بن علي وتساءل "كيف هذا، كيف تذهب معنا؟ هل أنا من يرافق العائلة أم أنت، لكن على أحدنا أن يبقى هنا، على الأقل لضمان أمن قصر قرطاج". حينها طلب السرياطي من مضيفة الطيران أن تناوله أغراضه وكانت عبارة عن محفظة ومعطف وقبعة ثم نزل.
فيما بعد وخلال التحقيق الأول معه في السجن، زعم السرياطي أنه اتفق مع الرئيس على المغادرة وأن الرئيس طلب منه مرافقته. لكن هذا لم يحصل كان اقتراح السرياطي ويبدو أنه شعر بالراحة لأن الرئيس لم يسمح له بالسفر. وحتى خلال التحقيقات التالية التي جرت معه، وحين سئل عما إذا كانت لدى الرئيس نية الهروب، أجاب "نعم، اعتقد ذلك" وهذا كذب وافتراء حقيقي.
فبدون إصرار السرياطي لم يكن الرئيس سيصعد الطائرة على الإطلاق، ولم يكن يود أبدا مرافقتنا إلى المطار، وحين قرر المغادرة إلى المملكة العربية السعودية معنا، كان عازما على العودة في اليوم التالي.
ترصد ليلى بن علي من وجهة نظرها ساعة بساعة، ولحظة بلحظة الطريقة التي أُجبرت فيها على مغادرة بيتها في سيدي بوزيد، ومن ثمة تونس انطلاقاً من مطار العوينة العسكري وليس مطار قرطاج، مثلما أكد لها مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي، حتى التوقيفات التي طالت أفراد عائلتها، ومقربين منها.
وترد ليلى بن علي في هذا الكتاب أيضا، على كل ما وصفته بادعاءات كاذبة وافتراءات غير مؤسسة نالت منها ومن أولادها، وهي التي وصفت بالمرأة المتكالبة على المال والسلطة. وإن كانت زوجة الرئيس التونسي السابق، تعترف باستفادة أفراد عائلتها من الطرابلسية بتواطؤ من مؤسسات الدولة من خيرات تونس، إلا أنها تحدثت عن الكثير من التفاصيل في ما يخص اتهام قريب لها بسرقة يخت في فرنسا، إلى ما سمته اللعبة المزدوجة التي لعبتها بعض الوجوه السياسية التونسية والدولية وعلى الخصوص الاستخبارات الفرنسية في الإطاحة بزوجها.
تفاصيل عدة تحاول من خلالها ليلى بن علي، دحض ما نشر وكتب عنها في هذا الكتاب الذي نشرته الزميلة "القبس" وترجمت حلقات منه، وقد تمت صياغته انطلاقا من مقابلات أجريت معها. وتنشره "الغد" بالاتفاق مع "القبس" الكويتية.
ماذا وقع في الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) 2011؟ لقد لفّت هذا اليوم إشاعات كثيرة، وادعاءات كاذبة وأدلة مصطنعة. ولذلك عليّ أن أبدأ بسرد الوقائع بدقة، مثلما لاحظتها وعشتها، لقد كانت أحداثا ميّزت رحيلنا القسري من البلاد.
في ذلك الصباح، استيقظت في حدود الساعة الثامنة صباحا في بيتنا بسيدي بوزيد.
كان الجو جميلا والبحر أزرق اللون وهادئا، لكن رغم ذلك لم أكن قادرة على الاستمتاع بمثل هذا المنظر، لأن الأخبار التي كانت تصل منذ بضعة أيام، غير مطمئنة تماما.
كانت موجة من الاحتجاجات تعصف بالبلاد، وقد انطلقت في بعض مناطق الجنوب والوسط، لتنتشر وتمتد إلى العاصمة.
في تلك الفترة بدأت عائلاتنا بالقلق، فبيت الزوجة السابقة لأخي ناصر احترق، أما شقيقتي جليلة فقد لجأت إليّ برفقة عائلتها منذ يوم الأربعاء، أي بعد يومين من ورود معلومات إليها تفيد بوجود عصابات، قررت الاعتداء على عائلة طرابلسي وأملاكها. والأمر نفسه وقع مع أخي بلحسن، الذي قرر هو الآخر قضاء بضعة ليال عند زوج والدته برفقة زوجته وأولاده.
كنا ندرك بالتأكيد أننا نعيش مرحلة صعبة، لكني لم أكن اعتقد أن الأوضاع ستتدهور بهذا الشكل ولا أننا سنغادر بعد بضع ساعات.
في تلك الجمعة 14 كانون الثاني ( يناير)، فوجئت بتدفق أفراد أسرتي على بيتي، تقاطر الجميع على بيتي، وكان من بينهم أخواتي وإخوتي وأبناء إخوتي وأولادهم وشقيقات زوجي، بالإضافة إلى أقرباء لبن علي.
كان الجميع يتحدثون عن فوضى، وعن خطر حقيقي بات قريبا، بعد أن أرسل لهم رئيس الأمن الرئاسي علي السرياطي سيارات رباعية الدفع، حتى يجتمعوا عندي في سيدي بوزيد، لكني في الواقع لم اكتب أي شكوى ولم أرسل أي رسالة إلى أفراد عائلتي عن طريق السرياطي.
لقد كلمهم هذا الأخير وشجعهم على مغادرة البلاد، وكان يقول "إنها تحترق"، ثم تكفل بتوفير حجوزات لهم على الرحلات المتوجهة إلى كل من ليون وطرابلس، على أن يعودوا إلى تونس بعد أن يستتب الأمن وتعود الأوضاع إلى مجاريها.
استعد الجميع للرحيل واتجهوا إلى مطار قرطاج التونسي، بينما انشغلت أنا بمن سيغادرون متأخرين إلى طرابلس، وكان من بينهم الزوجة السابقة لأخي ناصر مع ابنها حسام وزوجة ناصر مع أولادها الثلاثة. لم يكن الجميع ينتظرون أن تكون المغادرة بهذه السرعة، لقد أتوا بدون حقائب، وكانت النساء يرتدين نعالا منزلية، فيما كان الأطفال بلا معاطف، وقد أعرتهم القليل مما هو موجود للسفر.
بن علي يطلب من ليلى أداء عمرة
في حدود الساعة الثالثة والنصف عصرا تلقيت مكالمة هاتفية من قصر قرطاج، وكان زوجي هو المتصل.
لقد اقترح علي الذهاب لأداء عمرة برفقة ابني محمد وابنتي حليمة. كان الطلب مفاجئا للغاية فسألته لماذا نذهب فجأة هكذا للمملكة العربية السعودية؟ فأجاب بن علي "فقط حتى تعود الأوضاع لحالتها العادية، ستعودون بعد ثلاثة أيام او أربعة".
كان علي السرياطي هو من اقترح على بن علي ذلك، كنت متأكدة من الأمر، لكني لم أفهم أهمية هذا الاقتراح ولا أسباب استعجال رحيلي: كيف يمكن لي أن أصدق أن بضعة آلاف من المتظاهرين يمكن أن يشكلوا خطرا علينا، ما يجبرنا على الرحيل؟
كنت أثق في زوجي وفي قدرته على استعادة الأمن وإخراج البلاد من الاضطرابات التي تهدد هدوءها، وكيف لا أثق به، وهو الذي كان يلقب بـ"جنرال الأزمات"، قبلت الفكرة في النهاية لكن بدون اقتناع.
في تلك الأثناء وصلت ابنتي حليمة، قادمة من قصر قرطاج، حيث كانت هناك برفقة خطيبها، للاطلاع عن كثب على ما يحصل، لكنها وصلت وفي جعبتها رسالة من والدها "علي أن أمرّ عليه في مكتبه، لأودعه وأسرع في المغادرة". في حدود الساعة الرابعة عصرا غادرت البيت أنا وابني محمد البالغ ست سنوات وابنتي حليمة وخطيبها، بدون أن يكون أمامنا متسع من الوقت لترتيب حقائبنا، لكني اكتفيت بحقيبة صغيرة وضعت فيها ملابس لمحمد الصغير، فيما وضعت في الحقيبة الثانية زوجا من الأحذية وعبايات لأداء العمرة ومستلزمات الحمام.
كانت حليمة ترتدي جينزا، وأما كل متاعها فهو معطف لا غير، فلا شيء يواسيها اليوم سوى أنها لم تنس ارتداء خاتم خطبتها.. هذا ما أقوله ردا على بعض القصص التي أوردت أني غادرت محملة بعشرات الحقائب.
لم آخذ أي مجوهرات ولا ملابس ولا الملابس البسيطة التي تُرتدى يوميا، ولم يكن بحوزتي لا مال ولا جواز سفر. وقد قيل اني ذهبت محملة بأطنان من الذهب، أخذتها من البنك المركزي بعد أن سطوت عليه.
لقد كذبت إدارة البنك كل هذه الافتراءات الكبيرة، وأخيرا قيل إنهم عثروا على مبالغ مالية هائلة في قصر سيدي بوزيد بعد رحيلنا. نعم كنا نملك سيولة وهذا أمر عادي في الصناديق الشخصية لرؤساء الدول، لكنها مبالغ لا يمكن أن تصل قيمتها إلى 41 مليون دينار تونسي مثلما قيل.
مغادرة على وقع نباح الكلاب
غادرنا قصر قرطاج على وقع نباح الكلاب التي يبدو أنها اشتمت رائحة المأساة، وأما في الخارج، فكان الشارع مهجورا ولا أثر لأي دبابة، لم تكن هناك سوى سيارة شرطة متوقفة بمفردها أمام عمارة، وأما في الأسفل فكانت هناك مدرعتان تابعتان للجيش التونسي فقط. لأول مرة شعرت بأن هناك أمرا غير طبيعي يجري.
اتجهنا نحو قصر قرطاج، حيث كان علي أن أودع زوجي قبل المغادرة مثلما كان متفقا عليه، لكن لم يكن هناك أي حارس أمام المبنى الرسمي، فيما كانت الأبواب كلها مشرعة، ولم تكن هناك سيارات للمرافقة ولا للخدمات، فيما لمحت دبابتين فقط على الرصيف.
ذهلت مما رأيت وتصورت بأننا في زمن الحرب، فيما انتابني شعور بأن الشر سيحيط بنا من كل صوب.
في داخل القصر وأمام مكتب الرئيس، رأيت سيارات رباعية الدفع متوقفة، بالإضافة إلى سيارة علي السرياطي، فيما كان هناك أفراد من الحرس الشخصي وسائقون، اقترب مني احدهم وترجاني "أرجوك سيدتي، أخرجيه من هنا، على الرئيس أن يرحل".
لم أفهم معنى ما كان يقوله هذا الرجل واقتربت من المكتب للدخول. كان زوجي محاطا بمدير التشريفات الرئاسية (البروتوكول) محسن رحيم ومدير مكتبه إياد اودرني ونجله مروان مبروك، زوج إحدى بناته من زواجه الأول، والذي لم يتأخر في مغادرة المكان.
بن علي يرافق عائلته إلى المطار
كان مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي قلقا ويتحدث عن أخطار كبيرة، حيث حاول إقناعنا بضرورة أن أرحل برفقة الأولاد، وانتهى إلى إقناع الرئيس بمرافقتنا إلى المطار، مثلما جرت عليه العادة.
بقينا خمس دقائق فقط، ثم طلب الرئيس من أحدهم الذهاب إلى البيت لإحضار جوازات السفر، في تلك الأثناء
صرخ السرياطي "أي بيت؟ وأي جوازات سفر؟ ليس أمامنا أي وقت، علينا الرحيل فورا".
لم يكن أمامنا متسع للتفكير منطقيا، ورغم ذلك رفض زوجي مغادرة مكتبه، وقال للسرياطي "رافقهم، أنا سأبقى هنا"، لكن هذا الأخير أصر وقال إن القصر يمكن أن يتعرض للتفجير، وإن المروحيات تحيط بالمكان وخفر السواحل يملأون البحر. شخصيا لم أر أي مروحية، ولم أفهم كلام السرياطي الذي اعتبرته مجرد هذيان، لكني لم أقل شيئا وإنما حليمة هي من أصر على أن يرافقنا والدها إلى المطار وهددته بالقول "إن لم تأت، لن ارحل". حينها قرر بن علي الخروج من القصر.
تغيير الوجهة
أنا من قاد السيارة فيما جلس زوجي إلى جانبي، وركب ابني محمد وحليمة وخطيبها إلى الوراء. كان الموكب يتكون من سيارتي وسيارة تقل الحرس الشخصي وسيارتين أو ثلاث كانت تتجاوز الموكب للحراسة، فيما كانت سيارة علي السرياطي تسير أمامنا بسرعة فائقة لدرجة أنه اصطدم بسيارة مدنية في مفترق طرق قرطاج، لكنه لم يتوقف، اعتقادا منه بأن الأمر ليس خطيرا ولا يستدعي التوقف.
وبدل أن نتوجه نحو المطار الدولي لقرطاج، المكان الذي كنا نغادر منه في العادة، اتجه السرياطي إلى مطار العونية المخصص فقط للطيران العسكري.
فوجئت من تغيير الاتجاه، لكني لم اطرح أي سؤال، فالرجل يعرف جيدا الوضع وما علي سوى السير وراءه وبسرعة كبيرة، في تلك الأثناء أنزل الرئيس المظلة الداخلية للسيارة حتى لا يتم التعرف عليه وطلب مني تخفيض السرعة وقال "لا يوجد حريق".
في الواقع لم يفهم الرئيس لم كان السرياطي يسرع لدرجة أننا بلغنا مطار العونية في ظرف ست دقائق.
في مطار العونية
رفض الحرس العسكري في البداية فتح الأبواب لنا، وتطلّب دخولنا نزول السرياطي من سيارته، وحين دخلنا لم تتم مرافقتنا إلى القاعة الشرفية مثل العادة، ولكن إلى سرداب كانت به طائرة عسكرية.
رأيت من حولي، فانتبهت إلى أن السرداب يعج بعشرات العسكريين، كانت هناك وحدات للتدخل من فرقة محاربة الإرهاب، الذي كنا نطلق عليهم اسم "النينجا" وعناصر من الحرس الوطني وموظفين في الأمن بلباس مدني، وكان عناصر آخرون يرتدون زيا موحدا أخضر اللون، لم أتمكن من معرفتهم.
وكان الحرس الشخصي التابع لنا يفصل بيننا وبين الآخرين.
رأيت أيضا مدرعات تابعة للجيش، ولكن اعتقد أنها كانت موجودة في هذا المكان منذ بدء التظاهرات بسبب حالة الطوارئ التي أُعلنت في البلاد.
المفاجأة الثانية هي أن عددا من أفراد عائلتي الذين كانوا سيتوجهون إلى طرابلس انطلاقا من مطار قرطاج لحقوا بنا، لقد سمعوا بأني ذاهبة إلى المملكة العربية السعودية، فجاءوا أملا في العثور على مكان في الطائرة التي كانت ستقلنا، لكن السرياطي حاول ثنيهم بالقول إنهم مسجلون في رحلة تنطلق عند الساعة السابعة مساء باتجاه ليبيا، وأن عليهم الرحيل فورا حتى لا تفوتهم الرحلة، وأما أنا فلم يسمح لي الوقت إلا بإبقاء أخت زوجي سعاد إلى جانبي.
في السرداب انشغل زوجي بالحديث إلى السرياطي، وكانا يتجهان نحو الطائرة وأما أنا فكنت اتبعهما مثل الروبوت ولكني لمست شيئا من العدائية، فقلت في نفسي، لو أراد أحدهم إطلاق النار على بن علي، لأصابني أنا وهذا للأسف حلم حلمت به سابقا وكنت أتذكره دوما.
مفاوضات في الطائرة
عمّ ذعر كبير، حين أعلن السرياطي أن فرقة مكافحة الإرهاب استولت على برج المراقبة وهناك تحدثت لأول مرة، ووجهت كلامي لقائد الطائرة شيخ روحو، حيث طلبت منه إطلاعي على ما يحدث بالضبط "هل نحن فعلا غير قادرين على المغادرة؟".
أجرى قائد الطائرة اتصالا هاتفيا ثم ردّ علي "لا تنشغلي سيدتي، لا أحد استولى على برج المراقبة، وسنغادر".
هل كان علي السرياطي يكذب أم كان ضحية معلومات مغلوطة؟ على كل حال ها هو يلعب مرة أخرى، لأنه اقترح على زوجي هذه المرة شيئا آخر "سيدي الرئيس، لا نعرف الوضع، لذا عليك أن ترافق شخصيا عائلتك إلى المملكة العربية السعودية، لن تخسر شيئا إن فعلت ذلك، غدا ستعود الأمور إلى مجاريها وستعود".
رأيت زوجي وقد تملكه الذهول والدهشة، لماذا يغادر هو الآخر؟ كيف سيغادر فيما يتطلب الوضع الاستعجالي الذي تعيشه البلاد وجوده؟
في تلك الأثناء كان السرياطي يسرد السيناريو المحتمل الذي رسمه بنفسه "تفجير القصر وحمام دم واغتيال محتمل للرئيس من قبل أحد حراسه الشخصيين.
بن علي يركب الطائرة
انتهى بن علي في النهاية بقبول فكرة المغادرة بسبب إصرار السرياطي وليس بسبب دموع ابني مثلما قيل، فالصغير محمد، لم يكن يعي ما يحصل، وكان قد ركب الطائرة بمجرد وصولنا إلى مطار العوينة. في تلك الأثناء وفي حضور مدير التشريفات الرئاسية (البروتوكول) محسن رحيم، استدعى الرئيس قائد الطائرة ليخبره بقراره "سأرافقكم، حتى وصول العائلة ثم نعود بعدها مباشرة، ثم استدار نحو رحيم وطلب منه إطلاع الوزير الأول على القرار".
كان السرياطي يدفع الرئيس باتجاه مصعد الطائرة خوفا من أن يغير رأيه، وحين صعدا استمر في حديثه وقال "أنا أيضا سأغادر معكم، أغراضي موجودة هنا".
فوجئ بن علي وتساءل "كيف هذا، كيف تذهب معنا؟ هل أنا من يرافق العائلة أم أنت، لكن على أحدنا أن يبقى هنا، على الأقل لضمان أمن قصر قرطاج". حينها طلب السرياطي من مضيفة الطيران أن تناوله أغراضه وكانت عبارة عن محفظة ومعطف وقبعة ثم نزل.
فيما بعد وخلال التحقيق الأول معه في السجن، زعم السرياطي أنه اتفق مع الرئيس على المغادرة وأن الرئيس طلب منه مرافقته. لكن هذا لم يحصل كان اقتراح السرياطي ويبدو أنه شعر بالراحة لأن الرئيس لم يسمح له بالسفر. وحتى خلال التحقيقات التالية التي جرت معه، وحين سئل عما إذا كانت لدى الرئيس نية الهروب، أجاب "نعم، اعتقد ذلك" وهذا كذب وافتراء حقيقي.
فبدون إصرار السرياطي لم يكن الرئيس سيصعد الطائرة على الإطلاق، ولم يكن يود أبدا مرافقتنا إلى المطار، وحين قرر المغادرة إلى المملكة العربية السعودية معنا، كان عازما على العودة في اليوم التالي.
نقلا على "الغد"